الخميس، 18 سبتمبر 2014

علم الآثار عن بعد

علم الآثار عن بعد
بقلم فاروق الباز

حولت تقنيات  الاستشعار عن  بعد عمل علماء الآثار فأصبحوا في غنى عن  نبش الأرض  لفهم  الماضي .تزيد مساحة صحراء الربع الخالي عـــن 770000 كلم 2. وتذكر روايات أن هذه الصحراء كانت في الماضي أكثر  قبولا  للعيش فيها إذ كانتتحتضن مدينة "  أوبار"  وهي  واحة تقــع  علــــى  طريــق  البخـــــور  وورد  ذكرها  في القرآن  باسم إرم ذات العماد ".
 وقد بحث  توماس  لورنس المعروف  باسم  لورنس العرب  بنفسه عن  أطلنطيد الرمال هذه  ولكن  بدون جدوى .
فأين ينبغي البحث  عن " أوبار " ؟
 بينت المركبة الفضائية  وأقمار لاندسات الصناعية  خطوطا  تلتقي في نقطة  مرتفعة  فوق  كثبان الرمال . هل كانت  نقطة  الالتقاء هذه  مقبرة أم مدينة ؟ و لتبين الأمر أرسلت بعثات إلى عين المكان عامي 1990-1991  وأجريت تنقيبات على امتداد إحدى الطرق كشفت  بنية  مدينة  محصنة  مدفونة  منذ  قرون.
في صحراء نيومكسيكو، كشف الاستشعار بواسطة رادار السبر الأرضي عن وجود أطلال أخرى أقدم بكثير. بين انعكاس أمواج  الرادارات  المبثوثة  في الأرض  طبقات  ترابية و صخرية  مختلفة، و حتى بقايا  ديناصورات.
وهكذا تمكن الباليونتولوجيون (علماء الحياة القديمة) من استخراج  مستحثات  لديناصورات  كانت ، قبل ملايين السنين ، ترج  الأرض تحت أقدامها  أثناء  تنقلها .
تستخدم أدوات الاستشعار عن بعد أكثر فأكثر من طرف علماء الآثار في الفضاء أو على الأرض.
بواسطة رادارات أجهزة  قياس  مغناطيسية  أو سيسمومترات (جهاز قياسالاهتزازات) .
يحددهؤلاء، و بسهولة، المواقع التي يجب التنقيب فيها و يستكشفونها عن قرب دون تخريبها. و ستبدل المجرفة و الفأس تدريجيا بالرادار و الماغنيطومتر والسيسمومتر.
بالرغم من أن الطيارين يأخذون صورا جوية منذ بداية القرن العشرين إلا أن الاستشعار عن بعد لم يطبق على الأرض إلا منذ عام 1968 إذ أرسل ملاحو أبولو أولى الصور عن  كوكب الأرض  من  القمر...بعد فترة من ذلك أصبح رجال الفضاء في مداراتهم يشاهدون سور الصين العظيم متسلقا جبال الصين و الهرم الأكبر المشرف على هضبة الجيزة غرب النيل.
من الموارد الزراعية إلى علم الآثار:
أرسلت النازا في عام 1972 أول قمر صناعي "لاندسات" لمراقبة المناطق الزراعية ودراستها. تسمح كثافة الأشعة دون الحمراء المعكوسة  من  طرف النبات بتقدير المردود  من  المحاصيل (.....)  فكلما كان محصول القمح  وفيرا كلما  كان الانعكاس المطابق  قويا  . و بالتدريج أصبح  الجغرافيون و الجيولوجيون والأركيولوجيون  يستعملون  أقمار لاندسات  لتحديد  مواقع  أطلال  "المايا " في  الأدغال  الكثيفة  في شبه جزيرة  يوكاتان في المكسيك  وبنايات  قديمة  في  وادي  الرافدين.
ثم في سنة 1980  نصب توماس  سيفر من النازا و بايزون  شيتس  من جامعة كولورادو كاميرات تعمل  بالأشعة  دون  الحمراء على  طائرات، فالصور المأخوذة من ارتفاعات قليلة أدق من تلك التي تمنحها الأقمار الصناعية . وشاهدا في منطقة "تيلاران" في شمال غرب  كوستاريكا  في بعض الصور خطا غريبا متموجا في بعض الصور يخترق التلال  والأودية  في استقامة : أكدت تنقيبات ميدانية  أنها طرق أنشئت  قبل  فترة  تتراوح  بين 1000 و 2000  سنة،  لتربط  بين  المقابر والقرى  و المحاجر.
كذلك أمكن الكشف عن  طرق قديمة  بواسطة  القمر الصناعي كما  يؤكده  مثال " أوبار" و لكن التفاصيل  التي تقدمها  الصور الجوية  أدق : لقد عثر العالمان بسهولة و دقة على المكان الصحيح  للطرق التي كانا  يبحثان عنها . و قد اكتشفت نفس الفرقة  في  كانيون ( فج ) شاكو في ولاية  نيو مكسيكو  طرقات  أخرى  تعود  إلى  ما  قبل   التاريخ ، تؤكد  أن  حضارة  " شاكو"  كانت  تشكل  جزءا  من  شبكة  تجارية  واسعة.
في عام 1986 حسن مركز للدراسات  الفضائية  أدوات الاستشعار عن  بعد  بفضل القمر الصناعي  سبوت....
ليست صور سبوت  بالدقة التي تتميز بها الصور الجوية ولكنها تغطي مساحات  أوسع  من  تلك  التي تغطيها الصور الجوية الشيء  الذي يسمح بدراسة منطقة بكاملها.و قد استعمل جيمسوايزمان وزملاؤه من جامعة  بوسطن  صور سبوت لشمال غرب اليونان لإعادة رسم الخط القديم  لساحل  خليج" أموضيا" الذي  كان  يحتضن  ميناء هاما وأنجزوا  خرائط  للقنوات القديمة  والأذرع  البحرية.
إن صورة  الرادار الفضائية  أداة  أخرى  مفيدة  للأركيولوجيا استعملت أول مرة  أثناء  الطيران  التدشيني  للمركبة  الفضائية في نوفمبر 1981 و منحت  العديد  من الصور لشرق الصحراء  الكبرى . في 1984 ثم في أفريل و أكتوبر 1994 سجلت رادارات محمولة على متن المركبة الفضائية صورا لشبه الجزيرة العربية.
ترسل أحدث هذه الرادارات عدة موجات مستقطبة ( مجالها الكهربائي موجه بدقة) في اتجاهين ويكشف بذلك تفاصيل إضافية في المناطق المصورة.
جذور مصر القديمة
استخدمت على الخصوص الصور الرادارية للصحراء الغربية  المصرية بالقرب من الحدود مع لسودان.الأرض مغطاة بطبقة سميكة  ومستوية  من الرمال ، و لا تتخللها إلا بعض التلال . اكتشفنا في الصور الرادارية سررا جافة  لثلاثة  أنهار كبرى عرض الواحد منها  عشرون كيلومترا . أما التلال  فكانت جزرا صنعها الحت النهري . و قد أكدت الفؤوس  التي اكتشفها  علماء الآثار على ضفاف طرق الملاحة هذه أن البشر استوطنوا تلك المنطقة قبل 200.000  سنة . كيف  كان يتسنى  لنا معرفة  ماضي هذه  المنطقة المدفونة  تحت خمسة أمتار من الرمال بدون الرادار؟
إن هذا الاكتشاف  يؤكد الفرضية القائلة  بأن الصحراء الغربية المصرية  التي تعد اليوم  من  أكثر مناطق العالم جفافا ، كانت قبل  ما يتراوح  بين 5000 سنة و 11000 سنة ذات مناخ رطب . حسب " فردونيدهورف Fred Wendhorf   "من الجامعة الميتودية الجنوبية Université méthodiste méridionale  ، فإن كمية  الأمطار في هذه المنطقة  ارتفعت  بما يتراوح  بين 1 ملم و 20  ملم  في السنة  قبل 11000 سنة . عندئذ ظهرت أعشاب  وشجيرات شوكية  شبيهة بذلك الموجودة اليوم  في المناطق الصحراوية  الجدباء  مثل وادي  الموت في كاليفورنيا . مع أن  المناخ  تميز بعدة  فترات من الجفاف  وترعرعت  ثقافة  قائمة على  تربية  المواشي  و الرعي.
تتزامن نهاية الفترة الرطبة في الصحراء قبل 5000 عام مع  ظهور الحضارة المصرية القديمة . قد يكون هذان الحدثان مترابطين في شرق الصحراء الذي أصبح أكثر جفافا. فع هذا الجفاف الناس الذين كانوا يعشون هناك إلى الاقتراب من المصدر الوحيد الثابت والمستقر للمياه و هو نهر النيل و امتزجوا بالسكان المستقرين ، قبلهم ،  على صفتي النهر. و يبدو أن امتزاج الثقافات قد أثمر. عاش سكان الضفتين في انسجام  مع  النهر، بقياس قوة فيضاناته السنوية و إنشاء قنوات لسقي حقولهم و كان تفكيرهم منصرفا إلى الأرض فطوروا معارفهم . أما رحل الغرب فكانت لهم حكمة الصحراء وكيفوا معيشتهم  مع الأمطار الشحيحة  والبحث عن البراري المعشوشبة. و للإفلات من حرارة الشمس الشديدة  كانوا يتنقلون ليلا واهتموا  بالفلك . لقد كانت أنظار هؤلاء البدو متجهة نحو السماء بحثا عن مكان الإنسان في الكون و نعثر على هذه النزعة الفلسفية عبر كل تاريخ  مصر.
لقد أدى وصول البدو إلى ضفاف النيل و مضاعفته لعدد السكان إلى فرض تنظيم اجتماعي  أفضل  بغرض  إنتاج  الكفاية  من الغذاء  والطعام   قد أنشأ التفاعل الثقافي بين الفئتين مجتمعا جديدا كان أساس الحضارة  المصرية  القديمة.
الاستشعار عن بعد من سطح الأرض :
توجد أدوات أخرى للاستشعار عن بعد ما تزال قليلة الاستعمال تسهل العمل الميداني لعلماء الآثار.على العموم عندما يدرس هؤلاء موقعا ما  يؤطرونهبحبال و يقومون بالسبر في نقاط التقاء المربعات ويكون احتمال مجانبةالاكتشافات كبيرا في هذه الحالة.و على العكس من ذلك، يبن الاستشعار السطحي عن بعد مسبقا أهم المواقع و بذلك يقلص المساحات التي يجب  الحفر فيها و يوفر بذلك وقتا كبيرا و ثمينا.
استخدمت " آنا روزفلت Anna Roosevelt" من متحف شيكاغو تلك الأدوات لدراسة ثقافات ما قبل التاريخ في الجزء البرازيلي من الأمازون.و قد قلبت تلك الأعمال الكثير من النظريات.ففي جزيرة " ماراجو Marajo " عند مصب نهر الأمازون استخدمت أدوات  متنوعة لدراسة التلال التي أنشأها السكان الذين كانوا  يعيشون من الصيد والزراعة و الجمع (الالتقاط) . و قد مكن مسح  أنجز بواسطة  مغنيطومتر بروتوني  لعدة  تجمعات  تغطي مساحة عرضها ثلاثة هكتارات ويتراوح  ارتفاعها  بين 7 و 10 أمتار باكتشاف تجمعات كبرى مبنية  بالطين  لعدة  منازل.
كشف رادار سبر أرضي طبقات ترابية مقلبة أو منبوشة في حين بينت قياس درجة النقل الكهربائي للتربة البنية السفلية للميدان بطبقات مختلفة وتعديلات مرتبطة بوجود بناءات،مساكن وطمر بالنفايات.وكشف سيسمو متر عدة مراحل في البناء و كذا  الوضعية الأصلية للتربة التي بنيت عليها التلال .
 تعطي هذه النتائج إضافة إلى الحفريات التي تلتها صورة عن الحياة على ضفاف الأمازون بين سنة 500 م  وتاريخ وصول الأوروبيين في منتصف القرن 12 !!!
كانت شعوب "ماراجو" تعيش في أقاليم منفصلة و كانت في حروب بعضها ضد البعض الآخر.كانت تعيش من التقاط الثمار وجني محاصيلها كانت  مساكنهم  فوق قمم الروابي مرتفعة عن المستنقعات . كانوا ، طيلة  قرون ، يبنون مساكنهم فوق أطلال المساكن السابقة ، كانت هذه  الثقافة المتقنة  ذات  أصل محلي  خلافا  للفرضية  القائلة  أن  كثافة  الغابة  حالت  دون تطور  المجتمعات  الهندية  و تقدمها .
بالقرب من "سانتاريم Santarém " في شمال شرق البرازيل ، اكتشفت "آنا روزفلت" أمرا  مهما  يتعلق  بتاريخ  تعمير  أمريكا، لأنه يبرهن على أنه ،على عكس  ما كان  يعتقده علماء الآثار، لم  يؤت  بالأواني الفخارية  إلى الأمازون من قبل هنود  المكسيك  و البيرو. لقد كشف رادار ذو ولوج  أرضي  ودراسات  اهتزازية ، بالفعل ، وجود أواني أمازونية  أقدم  بآلاف  السنين من  تلك التي عثر عليها في غرب القارة  مؤكدة بذلك  هذا الاكتشاف.
إن الخطر الوحيد الذي يهدد  المواقع الأثرية بعد التنقيب فيها هو الإتلاف الذي قد تتعرض له من  قبل  التعرية  أو  من طرف  الزوار أو من طرف  اللصوص.
إن معالم شهيرة و قيمة مثل معابد أنكور في كمبوتشيا  وماشوبيشو في البيرو تتعرض للتدهور وأفضل وسيلة  للحفاظ على موقع  أثري هو دراسته  مع عدم  إلحاق الضرر به  قدر الإمكان.
زورقا الفرعون  خوفو :
تعود أولى محاولاتي لاستعمال الاستشعار عن بعد إلى عام 1987 أثناء الأشغال التي مست الهرم الأكبر في الجيزة الذي بناه الفرعون خوفو قبل 4600سنة.يضم هذا الهرم غرفتين مغلقتين بإحكام عند قاعدته. الأولى فتحت عام 1954 وكانت تحتوي على زورق مفكك طوله 43.4 متر و عرضه 5.9 . تطلب إخراج هذا الزورق  الملكي و إعادة  تركيبه 18 عاما  ووضع  في آخر المطاف في " متحف ملاحي"  بني لذلك  الغرض  في عين المكان . هذا المركب معروض للجمهور منذ 1982 و يحظى  بالزيارة  من  قبل أعداد  كبيرة  من الناس . و مع  ذلك  فهو  مهدد إذ  يكون طوله  قد تقلص ، منذ أن وضع في المتحف ، ب 50 سنتمترا لأن الجو في المتحف  يختلف عن الجو في داخل الهرم ، ولذلك  دعيت  لدراسة الظروف المناخية  داخل  الغرفة  الثانية المغلقة  بإحكام  وكان الظن غالبا أنها  تحتوي على زورق ثان ، وتقديم  اقتراحات  للحفاظ  على  الزورق الأول.
لأخذ عينة من هواء الغرفة الثانية التي كنت اعتقد أنها محكمة الإغلاق مثل الغرفة السابقة استعنت ب"بوب مورز   Bob Moores" و هو مهندس في شركة "Black et Decker "ساهم في ابتكار آلة ثاقبة قمرية(Lunaire)  يستخدمها رجال الفضاء. صنع هذا المهندس عازلا ( (sas يسمح بثقب الصخر دون السماح للهواء الموجود بداخل الغرفة بالاختلاط بالهواء الخارجي و استخدمنا رادار سبر أرضي لمعرفة  شكل الغرفة و اختيار موضع  ملائم لإحداث  الثقب.
بعد يومين و نصف من الحفر ثقبنا الصخرة  بسمك 159 سم  وأدخلنا عندئذ مسبارا  و أخذنا هواء من ثلاث  ارتفاعات مختلفة ، ثم أنزلنا  كاميرا في الثقب  و اكتشفنا خطوطا هيروغليفية على الجدران كما اكتشفنا الزورق الثاني كما كان منتظرا .
 أكد وجود عفن الرطوبة على الجدران و مشاهدة صرصور صحراوي حيا داخل الغرفة  أن هذه الغرفة كانت متصلة بالخارج . غير أننا لم نشأ إعطاب الزورق  الموجود  بالداخل  فسددنا  الثقب  و تركنا الماضي الملكي على الحال التي  وجدناه عليها.
ويذهب علم الآثار غير المخرب هذا (بكسر الراء) تذهب إلى أبعد من هذا فقد كشف علماء آثار إنجليز مدينة رومانية تحت قرية "وروكستر  Wroxeter " دون إلحاق أي  ضرر بالقرية  ولا بالحقول  المحيطة  بها و تعرفوا على الطرق  والمخازن  وما  يعتقد  بأنه  كنيسة . و يعطي تمثيل الكتروني  قائم  على القياسات  التي أجريت  صورة عن  هذه  المدينة  الكثيرة  السكان  والمندثرة  في الوقت  الراهن .
في بحثنا عن الماضي المدفون  تحت الأرض  سنعرف عن الأشياء ، في المستقبل القريب ، أكثر مما لو لامسناها  باستخراجها  من الأرض .
المصدر 
L'archéologie à distance, FAROUK EL BAZ. POUR LA  SCIENCE - N ° 240 OCTOBRE 1997
ترجمة :كاتب مدونة تاج

ليست هناك تعليقات :